وقفات مع الشعر الفلسطيني الحديث :
"الحلقة الثالثة "
رمزية الغيوم في ديوان " شامة بيضاء " للشاعرة إيمان زيّاد .
بقلم الاسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
الشاعرة إيمان زيّاد بنصوصها الشعرية المتوهجة والماطرة تحمل أعمالاً وأفراحاً وتنثرها كالدرر في أرض القصيد .. وتستدعي غيومها البيضاء لتمطر فوق الارض شعرا ..
طالعت ديوانيها الاول بعنوان " شامة بيضاء " الصادر عام ٢٠١٥ .. والثاني بعنوان " ماذا لو اطعمتك قلبي " الصادر بعام ٢٠١٧ .. فلمعت بين نصوص الديوانين النجوم وتوهجت الشموس وتكاثفت السحب الجميلة في الآفاق و نصوص يفوح من بين حروفها الامل والتفاؤل والضعف الانثوي الذي ينطوي على آفة الكبرياء وعطاء المرأة الفلسطينية وخفة روحها وتلقائياتها..
فكانت النصوص تفيض من القلب وما يحمله من شفافية ومحبة وإيماناً بالحياة وشغف الحرية والانطلاق .. إيمان التي أهدت شامتها البيضاء بملئ ما يُسعِد الأمل ببياض الغيم ببياض الامل و وردية الاحلام وجمالية الكون ففي ديوانها " شامة بيضاء " استوقفتني همومها في سماء القصائد فتكاثفت ما بين النصوص وعبرت افراحا وآمال واحلام . غيوم تعد الارض اليباب الخصب وتبعث الأمل في القلوب الظمأة وهي تحيا وجع الانتظار .. ولأن الغيوم البيضاء في السماء تبعث على الاستبشار بالخير وتحمل المطر الأنقى والاعذب والاصفى ..لتمنحه للأرض كي تلد وتخصب وتنبعث فيها الحياة بعد الجفاف .. فكانت رمزية الغيم لها مدلولاتها النفسية والثقافية والأدبية في الوجدان الشاعرة .. فأطلقتها في الفضاء لتعيد التأكيد على الحقائق الداملة وتعلن احتجاجها على الجفاف الإنساني .
و سنعيد تذكير كل من يهمه الأمر إلى أن ثمة حياة أخرى يمكنها تجسيدها ولو بالشعر و في هذه الوقفة مع ديوان شامة بيضاء سنحاول الوقوف امام نصوصها المحمولة على غيومها البيضاء .
أولا أنوثة الغيم - أنوثة الكون :
يبدو لنصوص الشعر أنها تتبنى موقفا ايدولوجيا ينبع من الايمان بأنوثة الكون و الطبيعة بوصفها علة الوجود و مبرره و غايته و هو موقف دارج و مألوف بين التيارات النسوية الحديثة و هو امتداد لرموز و معتقدات و أساطير و مواقف ثقافية و معرفية و فكرية قديمة و حديثة و في نصوصها تحاول الشاعرة تأطير هذا الموقف و محايزته في النص الشعري
و قد أهدت الشاعرة نصوصها إلى الانسانية التي تمزقها الغلال العصبية التي اخترعت البراءة بعد ان كانت سائدة في العالم في ازمنة العصر الأمومي قبل الانقلاب الذكوري و إلى المرأة التي لا ينصفها الكون بعد الحاق الهزيمة التاريخية بها أما اللافت فيه اهدائها ( لأجل سيدة الأرض تنتظر عودتنا)
و هذا هو بيت القصيد و كأن الشاعرة تخاطب روح الانثى الاله الكونية الامومة الكونية البداية و النهاية لأن الارض هي ام الكائنات منها جئنا و اليها نعود هي الانثى الاولى التي اخرجتنا للوجود كنا ترابا و نعود ترابا
و رمزية الغيوم في نصوص الشاعرة تسعى إلى خلق نوع من التماثل مع الارض فالماء هو البداية و هو الرحب الكوني الناطق بالحياة و الماء لم يأتي من عبث بل ولد من رحم الغيوم التي بدوره ولدت من رحم الماء و الماء يلد الماء كما يلد التراب ترابا و الشمس الانثى تسقط بأشعتها على الماء الانثى لتلد الغيوم الانثى و التي بدورها تلد قطرات الماء الإناث لتسقط وتخصب الارض الانثى .
ان دائرية الطبيعة تنطوي على الانوثة و لا شيء غيرها و كأن ثمة تماثل في البدايات فتخرج قطرات الماء من البحر بعد تبخرها و تكاثفها على شكل غيوم لتعود و تسقط على شكل قطرات ماء في البحر لتزدهر الطبيعة و تتجدد باستمرار و الغيوم لها مدلولاتها و معانيها في اعماق الشاعرة تلك الغيوم ببياضها و نقائها و عذوبة مائها و ما تحمله معها من عطاء و خير و بشارة للارض فهي أم الماء و الماء سبب الحياة و لذا نجدها تتمنى لو تكون ماطرة كما الغيمة حين تهتف:
ليتني خمسة حروف ماطرة
تهب لسان الارض المحترقة وقع البلل (صفحة 14)
تتمنى الشاعرة أن تتكاثف حروف اسمها و تتحول إلى غيمة ماطرة بعبارة اخرى تتمنى الشاعرة لو تبعث على شكل غمامة بيضاء ماطرة و فاعلة للخير و سببا في الخفق و الحياة فهمي تلتمس النقاء و الصفاء و العذوبة والهروب من عالم الدنس و التلوث الذي يملأ العالم الانساني و التحول إلى شيء اخر اكثر نصاعة و نقاء و لم تجد سوى الغيوم التي تراها متماثلة مع نفسها و لانها تتبنى موقفا احتجاجيا و رافضا للهيمنة الذكورية التي جعلت العالم أكثر قسوة نجدها تهتف في نص اخر :
و أيضا لا يأتي من رحم امرأة غيم قاس ( صفحة 25)
و المرأة هي الشكل الانساني و التعبير الاجتماعي للأنوثة الكونية التي انج الوجود من رحمها فرحم المرأة هو مجاز يختصر الأمومة و الحب و الخير و العطاء و الامل و السكينة و الحياة و هذه المرأة هي التي تمنح المعنى للوجود الاجتماعي و الانساني من حقها أن تكرم و يجب انصافها و الكف عن اهانتها و ظلمها و يتعين أن تستعيد مكانتها و دورها الطبيعي في الحياة و كأن الشاعرة تلتمس تصحيح خلل تاريخي سحيق و العودة إلى الطبيعة و ان الانقلاب الذكوري شذوذ عن الطبيعة و ينبغي تصحيح هذا الخلل وأصول هذا التصحيح أن العالم سيظل غارقا في الظلم و القسوة والحروب اذا كانت حاسمة في موقفها الايدولوجي و كأنها تود القول كما لا يوجد ماء أنقى و أصفى و أكثر عذوبة من ماء الغيم كذلك لا يوجد خير و حب و عطاء و سلام و امن الا و خرج من المرأة فالانوثة و الأمومة منبع السلام و الخير فيما الهيمنة الذكورية سبب القسوة و الحروب و الظلم ثم تعيد التأكيد على الأمومة الكونية بالقول : الغيمة التي سقطت منها يوجعها تنهدي إذا ترتجف بردا . " ص ٣٣ " .
الغيمة ترمز إلى الأمومة الكونية التي أنجبت الكائنات هي الأرض والطبيعة ، الأمومة بميزتها الطبيعية التي تهتم بشأن ابنائها تسعد لسعادتهم وتتألم لألمهم وتحس بهم وتحسس للمواجهة إذا استشعرت أن ثمة مخاطر تحيق بهم فنجدها تهرع للدفاع عنهم لكل ما اوتيت من بأس وإرادة فبهذا تعيدنا الشاعرة الى الطبيعة وكأنها تستبطن الكينونة الطبيعية وغرائزها الواعية واللاواعية فيما يجري في عالم الانسان يبعث على الأسى والحزن
والفجيعة وهنا الأنا الشعرية تعبر عن الانسان عموما وربما تتجاوز ذات الأنسان لتشمل سائر الكائنات الحية التي تتعرض للإبادة و الاجتثاث والاستهلاك المفرط وهو ما من شأنه أن يوجع روح الأمومة الكونية التي يقشعر جسدها لما يتعرض له أبنائها .
وفي نص آخر لا تزال الشاعرة تتقمص دور الغيمة التي خلقت لتبرق وترعد وتمطر ويمكن أداء وظيفتها ودورها من دون ملامسة الذكورة كما تقول :
أريد أن ألمس الليل
الليل الذي يغط في ميناء عيني
سأبرق ثم ارعد ثم أمطر ريشا
أريد فقط أن المس الليل " ص٣٨ " .
ولأن غاية الأنوثة هي الخصب فإنها تستدعي الذكورة لتلامسها لتبرق وترعد وتهطل مطرا لتبعث الحياة في الوجود ولأن المرأة سبب الحياة والحب والخصب والخير فإنها تدافع عن النساء إزاء ما يتعرضن له من قمع ذكوري ، فتهتف في أحد النصوص : ليست النساء بعثة المماليك
فهن اوراد السلام
جئن يبعثن الحياة في كف الهواء
ويمطرن بالحب انغام الرعاة
هن المزاريب يجمعن في افواههن ريق السماء " ص٥٦ " .
وفي هذا النص تعيد الكاتبة التأكيد على حرية المرأة وبديهية هذه الحرية الطبيعية التي سدلها تاريخ الهيمنة الذكورية ، فالنساء ليسن جواري للخدمة والمتعة والبيع والشراء في سوق النخاسة الذكورية بل هن في عصور الامومة الطبيعية كُنَّ رموز السلام والحياة والسكينة في العالم وهن يشبهن الغيوم يمطرن بحب وسعادة والانسجام مع روح الطببعة ولأنه في عصر الإنقلاب الذكوري يجري معاملتهن كجواري أو كموضوع للمتعة وحسب والقسوة عليهن والتعاطي معهن بما لا يليق بمكانتهن بالمجتمع وبهذا تعلن الشاعرة عن حلمها الذي يحمل في طياته الغضب والتهديد والوعيد وتعبر عن ذلك بالقول :
أنا غيمة جريحة
شطرني الرعد الى نصفين
وأغلب الظن أمطاري الكئيبة
ونقري على صفيح البيت لا ينذر بالخير " ص ٧٤ " .
الغيمة الجريحة هي المرأة المجروحة والمهانة والمنتهكة في حقوقها وحياتها ، تلك التي جرى السطو على دورها وقلب الطبيعة لتغدو الأنوثة مجرد موضوع يدور في فلك الذات الذكورية وهذه المرأة الانثى لا تستلم وتبقى واثقة ، والغيمة الجريحة تنزف دما بدل الماء وتمطر غضبا بدل المطر وتنضح بالكآبة والشؤم والحزن والدموع وتتوعد بالإنتقام ولا تنذر بأي خيى وهي تتصرف وفق غرائزها تماما مثل الطبيعة تمنح الحب والعطاء والخير لأنهم الطبيعة بها أن تلعب هذا الدور لكنها حين تغضب كأي انثى ومثل الطبيعة فأنها تلجأ للأنتقام والبطش لأنها لا تستكين ولا تستلم ، تؤيدها في نص آخر تخاطب الرجل :
أسمعني عتابك يهزني قليلا
حتى يتساقط خوفي كثلج قطني " ص٩٠ "
بفعل التجريح والعتاب والإهانة الذي يزلزل أعماق المرأة ويهز كيانها فتبدو مذعورة وخائفة وغاضبة وتستهيل إلى غيمة باردة لا تهطل إلا ثلج باردا ، وبحسب هذا النص والنص الذي سبقه فإن الشاعرة التي تمثلت دور الغيمة بعطائها و بشائرها بالخير هي أيضا تحمل غضب الغيوم التي تهطل وممكن أن يتحول مطرها إلى عواصف ثلجية وأعاصير مدمرة وبهذا فإن الغيوم البيضاء في هذه النصوص ينطوي على الجمال والودود والخير والعطاء وبذات الوقت تنطوي على الغضب والتهديد والوعيد .
ثانيا : غيم الانوثة - الحب والسكينة :
رأينا في النصوص السابقة استخدام الشاعرة لرمزية الغيم وتقمصتها وتمثلتها وخلقت تماثلا معها كتعبير عن حال المرأة في الطبيعة والتاريخ والمجتمع وما تنطوي عليه الأمومة والانوثة بالخير والعطاء وحب وخصب وفي ذات الوقت تحمل في أعماقها الغضب والدفاع عن دورها الطبيعي وكذلك الغيوم لا يمكن لها إلا أن تكون بيضاء وجميلة وماطرة تحمل هذا الخير والامل والحياة وفي ذات الوقت تحمل الغضب ، والشعر بإستخدامه لرمزية الغيم إنما هو عوزة للوصول والبدايات والطبيعة وكأنها تنفي التفكير للمجتمع الذكوري كبديهيات الطبيعة وأبجدية لغة الكون غير أنه وفي السياق الاجتماعي الأنساني تسعى للتعايش والتصالح مع الواقع والوصول الى حالة من المشاركة والتعاون مع المجتمع الذكوري وبهذا فإن رمزية الغيم تبدو أداة أو صورة أو مثلا تستخدمه الانوثة
في التعبير عن ذاتها ورغباتها وهواجسها وايضا رسالة ودية في أحد نصوصها :
رد قلبي لأنزف غيما مثقلا بالرغبات بين يديك " ص ١٣ " .
وهي دعوة تصالحية ودية للذكورة بأن تترفق بالانوثة بالحب والحنان والكلمات والسلوك الحضاري لأنها تقول :
أحبني لأبادلك الحب دلل قلبي بالكلمات والمواقف الحسنة لأمطر عليك حبا ومتعة لأسكنه بين يديك فكلما أحببتني أكثر وترفقت بي أتحول إلى غيوم ماطرة بالفرح واللذة والحب ، وبهذه الطريقة فقط بوسعي ان امنح الخير والسعادة والخصب والسعادة والنشوة . وفي نص آخر تقول :
وأرش الغيم في عينيك
أبحر في ملكوت البحر
وبكل يقين " ص ٣٦ " .
أنها غيوم الأنثى البيضاء الماطرة
التي تنثرها قي عينين الرجل على شكل عواطف ورغبات ووعود بالهناء والسكينة ، فالمرأة تنثر روحها الجميلة من تلقاء نفسها وليس بغرض الارهاب والهيمنة والعنف والخوف .
وفي نص آخر لا تزال على ذات اللهجة التصالحية والتعاونية حيث تهتف :
أمد يدا نحو الجنون
أدعوه الى غيمة شقية
ها نحن نملأ صدورنا بالهواء
ونقفز نرخي بصيرة الاحزان أو قميص الألم
دعها تطير الى قبرها دوننا " ص٦٧ " .
وفي هذا النص تبدو الغيمة مجرد وسيلة تحمل العاشقان على اجنحة السعادة والنشوة والمرح
إنها ليست غيمة ماطرة وإنما سحابة بيضاء ، تطير العشاق بالسماء ويقفزون منها الى أفاق المتعة والمغامرة
فالغيمة هذه المرة مركب للسعادة والمرح والفرح ، وفي نص آخر تقول :
عجبا كم تشبه الغيمة في هذه اللحظة في هذا الوقت بالضبط
فالغيم ينقل نافذتي بمخاض شديد وانت تنقل قلبي بالغياب " ص ٧٩ " .
في الوقت الذي تنقل امطار الغيم نوافذ بيت مبشرة بالامل والخصب والازدهار إلا أن غياب الرجل يشكل هاجسا للشاعرة ، وهنا تتطير الشاعرة من المطر الذي يجلد النافذة ولا يبشر بحضور الغائبين ولا ينزل هذا المخاض بولادة الحضور من رحم الغياب لكن الشاعرة لاتزال تتبنى لغة الحوار والتفاهم ولا تسعى الى الخصام والاشتباك ، ونجدها تقول في هذا النص : قصي عليه الغيم يتجلى مهمورا بزلاد الله
على ساقٍ يستجدي المطر " ص٨٢ " .
ما الذي قصدته الشاعرة قصي عليه الغيم ؟
هل كانت تنشد الحوار الذي يفضي الى التفاهم والوئام ؟ أم قصدت تذكير الذكورة بالاصول أي اصالة المرأة وانوثة الكون من خلال استحضار رمزية الغيم ؟
ثم نجدها تحسم خيارها في تبني لغة الحوار والتفاهم :
ماذا لو بقينا نغزل غيمة كنزة للشتاء
ونرصف رغبتنا بالصور " ص ٩٠ " .
لا شيء أجمل من اندثار الحب للوقاية من زمهرير الحياة وبردها القارص اندثارا يجري غزله من خيوط الغيوم البيضاء والنقية والعذبة
التي تحمل رمزية الخير والعطاء والوئام ، كانت لنا هذه الوقفة مع ديوان " شامة بيضاء " الذي يحمل بين دفتيه عشرات النصوص الجميلة والمتنوعة التي تحتاج الى مزيد من القرأة والتأمل والدراسة ، أما ديوانها الثاني " ماذا لو اطعمتك قلبي " وهو الآخر يحمل في طياته عدد من القصائد والنصوص التي تعكس المواقف الانسانية والاجتماعية والفكرية والسياسية التي تحتاج الى وقفة خاصة مع هذا الديوان .
إنتهى
الاسير الفلسطيني كميل ابو حنيش
سجن ريمون الصهيوني
"الحلقة الثالثة "
رمزية الغيوم في ديوان " شامة بيضاء " للشاعرة إيمان زيّاد .
بقلم الاسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
الشاعرة إيمان زيّاد بنصوصها الشعرية المتوهجة والماطرة تحمل أعمالاً وأفراحاً وتنثرها كالدرر في أرض القصيد .. وتستدعي غيومها البيضاء لتمطر فوق الارض شعرا ..
طالعت ديوانيها الاول بعنوان " شامة بيضاء " الصادر عام ٢٠١٥ .. والثاني بعنوان " ماذا لو اطعمتك قلبي " الصادر بعام ٢٠١٧ .. فلمعت بين نصوص الديوانين النجوم وتوهجت الشموس وتكاثفت السحب الجميلة في الآفاق و نصوص يفوح من بين حروفها الامل والتفاؤل والضعف الانثوي الذي ينطوي على آفة الكبرياء وعطاء المرأة الفلسطينية وخفة روحها وتلقائياتها..
فكانت النصوص تفيض من القلب وما يحمله من شفافية ومحبة وإيماناً بالحياة وشغف الحرية والانطلاق .. إيمان التي أهدت شامتها البيضاء بملئ ما يُسعِد الأمل ببياض الغيم ببياض الامل و وردية الاحلام وجمالية الكون ففي ديوانها " شامة بيضاء " استوقفتني همومها في سماء القصائد فتكاثفت ما بين النصوص وعبرت افراحا وآمال واحلام . غيوم تعد الارض اليباب الخصب وتبعث الأمل في القلوب الظمأة وهي تحيا وجع الانتظار .. ولأن الغيوم البيضاء في السماء تبعث على الاستبشار بالخير وتحمل المطر الأنقى والاعذب والاصفى ..لتمنحه للأرض كي تلد وتخصب وتنبعث فيها الحياة بعد الجفاف .. فكانت رمزية الغيم لها مدلولاتها النفسية والثقافية والأدبية في الوجدان الشاعرة .. فأطلقتها في الفضاء لتعيد التأكيد على الحقائق الداملة وتعلن احتجاجها على الجفاف الإنساني .
و سنعيد تذكير كل من يهمه الأمر إلى أن ثمة حياة أخرى يمكنها تجسيدها ولو بالشعر و في هذه الوقفة مع ديوان شامة بيضاء سنحاول الوقوف امام نصوصها المحمولة على غيومها البيضاء .
أولا أنوثة الغيم - أنوثة الكون :
يبدو لنصوص الشعر أنها تتبنى موقفا ايدولوجيا ينبع من الايمان بأنوثة الكون و الطبيعة بوصفها علة الوجود و مبرره و غايته و هو موقف دارج و مألوف بين التيارات النسوية الحديثة و هو امتداد لرموز و معتقدات و أساطير و مواقف ثقافية و معرفية و فكرية قديمة و حديثة و في نصوصها تحاول الشاعرة تأطير هذا الموقف و محايزته في النص الشعري
و قد أهدت الشاعرة نصوصها إلى الانسانية التي تمزقها الغلال العصبية التي اخترعت البراءة بعد ان كانت سائدة في العالم في ازمنة العصر الأمومي قبل الانقلاب الذكوري و إلى المرأة التي لا ينصفها الكون بعد الحاق الهزيمة التاريخية بها أما اللافت فيه اهدائها ( لأجل سيدة الأرض تنتظر عودتنا)
و هذا هو بيت القصيد و كأن الشاعرة تخاطب روح الانثى الاله الكونية الامومة الكونية البداية و النهاية لأن الارض هي ام الكائنات منها جئنا و اليها نعود هي الانثى الاولى التي اخرجتنا للوجود كنا ترابا و نعود ترابا
و رمزية الغيوم في نصوص الشاعرة تسعى إلى خلق نوع من التماثل مع الارض فالماء هو البداية و هو الرحب الكوني الناطق بالحياة و الماء لم يأتي من عبث بل ولد من رحم الغيوم التي بدوره ولدت من رحم الماء و الماء يلد الماء كما يلد التراب ترابا و الشمس الانثى تسقط بأشعتها على الماء الانثى لتلد الغيوم الانثى و التي بدورها تلد قطرات الماء الإناث لتسقط وتخصب الارض الانثى .
ان دائرية الطبيعة تنطوي على الانوثة و لا شيء غيرها و كأن ثمة تماثل في البدايات فتخرج قطرات الماء من البحر بعد تبخرها و تكاثفها على شكل غيوم لتعود و تسقط على شكل قطرات ماء في البحر لتزدهر الطبيعة و تتجدد باستمرار و الغيوم لها مدلولاتها و معانيها في اعماق الشاعرة تلك الغيوم ببياضها و نقائها و عذوبة مائها و ما تحمله معها من عطاء و خير و بشارة للارض فهي أم الماء و الماء سبب الحياة و لذا نجدها تتمنى لو تكون ماطرة كما الغيمة حين تهتف:
ليتني خمسة حروف ماطرة
تهب لسان الارض المحترقة وقع البلل (صفحة 14)
تتمنى الشاعرة أن تتكاثف حروف اسمها و تتحول إلى غيمة ماطرة بعبارة اخرى تتمنى الشاعرة لو تبعث على شكل غمامة بيضاء ماطرة و فاعلة للخير و سببا في الخفق و الحياة فهمي تلتمس النقاء و الصفاء و العذوبة والهروب من عالم الدنس و التلوث الذي يملأ العالم الانساني و التحول إلى شيء اخر اكثر نصاعة و نقاء و لم تجد سوى الغيوم التي تراها متماثلة مع نفسها و لانها تتبنى موقفا احتجاجيا و رافضا للهيمنة الذكورية التي جعلت العالم أكثر قسوة نجدها تهتف في نص اخر :
و أيضا لا يأتي من رحم امرأة غيم قاس ( صفحة 25)
و المرأة هي الشكل الانساني و التعبير الاجتماعي للأنوثة الكونية التي انج الوجود من رحمها فرحم المرأة هو مجاز يختصر الأمومة و الحب و الخير و العطاء و الامل و السكينة و الحياة و هذه المرأة هي التي تمنح المعنى للوجود الاجتماعي و الانساني من حقها أن تكرم و يجب انصافها و الكف عن اهانتها و ظلمها و يتعين أن تستعيد مكانتها و دورها الطبيعي في الحياة و كأن الشاعرة تلتمس تصحيح خلل تاريخي سحيق و العودة إلى الطبيعة و ان الانقلاب الذكوري شذوذ عن الطبيعة و ينبغي تصحيح هذا الخلل وأصول هذا التصحيح أن العالم سيظل غارقا في الظلم و القسوة والحروب اذا كانت حاسمة في موقفها الايدولوجي و كأنها تود القول كما لا يوجد ماء أنقى و أصفى و أكثر عذوبة من ماء الغيم كذلك لا يوجد خير و حب و عطاء و سلام و امن الا و خرج من المرأة فالانوثة و الأمومة منبع السلام و الخير فيما الهيمنة الذكورية سبب القسوة و الحروب و الظلم ثم تعيد التأكيد على الأمومة الكونية بالقول : الغيمة التي سقطت منها يوجعها تنهدي إذا ترتجف بردا . " ص ٣٣ " .
الغيمة ترمز إلى الأمومة الكونية التي أنجبت الكائنات هي الأرض والطبيعة ، الأمومة بميزتها الطبيعية التي تهتم بشأن ابنائها تسعد لسعادتهم وتتألم لألمهم وتحس بهم وتحسس للمواجهة إذا استشعرت أن ثمة مخاطر تحيق بهم فنجدها تهرع للدفاع عنهم لكل ما اوتيت من بأس وإرادة فبهذا تعيدنا الشاعرة الى الطبيعة وكأنها تستبطن الكينونة الطبيعية وغرائزها الواعية واللاواعية فيما يجري في عالم الانسان يبعث على الأسى والحزن
والفجيعة وهنا الأنا الشعرية تعبر عن الانسان عموما وربما تتجاوز ذات الأنسان لتشمل سائر الكائنات الحية التي تتعرض للإبادة و الاجتثاث والاستهلاك المفرط وهو ما من شأنه أن يوجع روح الأمومة الكونية التي يقشعر جسدها لما يتعرض له أبنائها .
وفي نص آخر لا تزال الشاعرة تتقمص دور الغيمة التي خلقت لتبرق وترعد وتمطر ويمكن أداء وظيفتها ودورها من دون ملامسة الذكورة كما تقول :
أريد أن ألمس الليل
الليل الذي يغط في ميناء عيني
سأبرق ثم ارعد ثم أمطر ريشا
أريد فقط أن المس الليل " ص٣٨ " .
ولأن غاية الأنوثة هي الخصب فإنها تستدعي الذكورة لتلامسها لتبرق وترعد وتهطل مطرا لتبعث الحياة في الوجود ولأن المرأة سبب الحياة والحب والخصب والخير فإنها تدافع عن النساء إزاء ما يتعرضن له من قمع ذكوري ، فتهتف في أحد النصوص : ليست النساء بعثة المماليك
فهن اوراد السلام
جئن يبعثن الحياة في كف الهواء
ويمطرن بالحب انغام الرعاة
هن المزاريب يجمعن في افواههن ريق السماء " ص٥٦ " .
وفي هذا النص تعيد الكاتبة التأكيد على حرية المرأة وبديهية هذه الحرية الطبيعية التي سدلها تاريخ الهيمنة الذكورية ، فالنساء ليسن جواري للخدمة والمتعة والبيع والشراء في سوق النخاسة الذكورية بل هن في عصور الامومة الطبيعية كُنَّ رموز السلام والحياة والسكينة في العالم وهن يشبهن الغيوم يمطرن بحب وسعادة والانسجام مع روح الطببعة ولأنه في عصر الإنقلاب الذكوري يجري معاملتهن كجواري أو كموضوع للمتعة وحسب والقسوة عليهن والتعاطي معهن بما لا يليق بمكانتهن بالمجتمع وبهذا تعلن الشاعرة عن حلمها الذي يحمل في طياته الغضب والتهديد والوعيد وتعبر عن ذلك بالقول :
أنا غيمة جريحة
شطرني الرعد الى نصفين
وأغلب الظن أمطاري الكئيبة
ونقري على صفيح البيت لا ينذر بالخير " ص ٧٤ " .
الغيمة الجريحة هي المرأة المجروحة والمهانة والمنتهكة في حقوقها وحياتها ، تلك التي جرى السطو على دورها وقلب الطبيعة لتغدو الأنوثة مجرد موضوع يدور في فلك الذات الذكورية وهذه المرأة الانثى لا تستلم وتبقى واثقة ، والغيمة الجريحة تنزف دما بدل الماء وتمطر غضبا بدل المطر وتنضح بالكآبة والشؤم والحزن والدموع وتتوعد بالإنتقام ولا تنذر بأي خيى وهي تتصرف وفق غرائزها تماما مثل الطبيعة تمنح الحب والعطاء والخير لأنهم الطبيعة بها أن تلعب هذا الدور لكنها حين تغضب كأي انثى ومثل الطبيعة فأنها تلجأ للأنتقام والبطش لأنها لا تستكين ولا تستلم ، تؤيدها في نص آخر تخاطب الرجل :
أسمعني عتابك يهزني قليلا
حتى يتساقط خوفي كثلج قطني " ص٩٠ "
بفعل التجريح والعتاب والإهانة الذي يزلزل أعماق المرأة ويهز كيانها فتبدو مذعورة وخائفة وغاضبة وتستهيل إلى غيمة باردة لا تهطل إلا ثلج باردا ، وبحسب هذا النص والنص الذي سبقه فإن الشاعرة التي تمثلت دور الغيمة بعطائها و بشائرها بالخير هي أيضا تحمل غضب الغيوم التي تهطل وممكن أن يتحول مطرها إلى عواصف ثلجية وأعاصير مدمرة وبهذا فإن الغيوم البيضاء في هذه النصوص ينطوي على الجمال والودود والخير والعطاء وبذات الوقت تنطوي على الغضب والتهديد والوعيد .
ثانيا : غيم الانوثة - الحب والسكينة :
رأينا في النصوص السابقة استخدام الشاعرة لرمزية الغيم وتقمصتها وتمثلتها وخلقت تماثلا معها كتعبير عن حال المرأة في الطبيعة والتاريخ والمجتمع وما تنطوي عليه الأمومة والانوثة بالخير والعطاء وحب وخصب وفي ذات الوقت تحمل في أعماقها الغضب والدفاع عن دورها الطبيعي وكذلك الغيوم لا يمكن لها إلا أن تكون بيضاء وجميلة وماطرة تحمل هذا الخير والامل والحياة وفي ذات الوقت تحمل الغضب ، والشعر بإستخدامه لرمزية الغيم إنما هو عوزة للوصول والبدايات والطبيعة وكأنها تنفي التفكير للمجتمع الذكوري كبديهيات الطبيعة وأبجدية لغة الكون غير أنه وفي السياق الاجتماعي الأنساني تسعى للتعايش والتصالح مع الواقع والوصول الى حالة من المشاركة والتعاون مع المجتمع الذكوري وبهذا فإن رمزية الغيم تبدو أداة أو صورة أو مثلا تستخدمه الانوثة
في التعبير عن ذاتها ورغباتها وهواجسها وايضا رسالة ودية في أحد نصوصها :
رد قلبي لأنزف غيما مثقلا بالرغبات بين يديك " ص ١٣ " .
وهي دعوة تصالحية ودية للذكورة بأن تترفق بالانوثة بالحب والحنان والكلمات والسلوك الحضاري لأنها تقول :
أحبني لأبادلك الحب دلل قلبي بالكلمات والمواقف الحسنة لأمطر عليك حبا ومتعة لأسكنه بين يديك فكلما أحببتني أكثر وترفقت بي أتحول إلى غيوم ماطرة بالفرح واللذة والحب ، وبهذه الطريقة فقط بوسعي ان امنح الخير والسعادة والخصب والسعادة والنشوة . وفي نص آخر تقول :
وأرش الغيم في عينيك
أبحر في ملكوت البحر
وبكل يقين " ص ٣٦ " .
أنها غيوم الأنثى البيضاء الماطرة
التي تنثرها قي عينين الرجل على شكل عواطف ورغبات ووعود بالهناء والسكينة ، فالمرأة تنثر روحها الجميلة من تلقاء نفسها وليس بغرض الارهاب والهيمنة والعنف والخوف .
وفي نص آخر لا تزال على ذات اللهجة التصالحية والتعاونية حيث تهتف :
أمد يدا نحو الجنون
أدعوه الى غيمة شقية
ها نحن نملأ صدورنا بالهواء
ونقفز نرخي بصيرة الاحزان أو قميص الألم
دعها تطير الى قبرها دوننا " ص٦٧ " .
وفي هذا النص تبدو الغيمة مجرد وسيلة تحمل العاشقان على اجنحة السعادة والنشوة والمرح
إنها ليست غيمة ماطرة وإنما سحابة بيضاء ، تطير العشاق بالسماء ويقفزون منها الى أفاق المتعة والمغامرة
فالغيمة هذه المرة مركب للسعادة والمرح والفرح ، وفي نص آخر تقول :
عجبا كم تشبه الغيمة في هذه اللحظة في هذا الوقت بالضبط
فالغيم ينقل نافذتي بمخاض شديد وانت تنقل قلبي بالغياب " ص ٧٩ " .
في الوقت الذي تنقل امطار الغيم نوافذ بيت مبشرة بالامل والخصب والازدهار إلا أن غياب الرجل يشكل هاجسا للشاعرة ، وهنا تتطير الشاعرة من المطر الذي يجلد النافذة ولا يبشر بحضور الغائبين ولا ينزل هذا المخاض بولادة الحضور من رحم الغياب لكن الشاعرة لاتزال تتبنى لغة الحوار والتفاهم ولا تسعى الى الخصام والاشتباك ، ونجدها تقول في هذا النص : قصي عليه الغيم يتجلى مهمورا بزلاد الله
على ساقٍ يستجدي المطر " ص٨٢ " .
ما الذي قصدته الشاعرة قصي عليه الغيم ؟
هل كانت تنشد الحوار الذي يفضي الى التفاهم والوئام ؟ أم قصدت تذكير الذكورة بالاصول أي اصالة المرأة وانوثة الكون من خلال استحضار رمزية الغيم ؟
ثم نجدها تحسم خيارها في تبني لغة الحوار والتفاهم :
ماذا لو بقينا نغزل غيمة كنزة للشتاء
ونرصف رغبتنا بالصور " ص ٩٠ " .
لا شيء أجمل من اندثار الحب للوقاية من زمهرير الحياة وبردها القارص اندثارا يجري غزله من خيوط الغيوم البيضاء والنقية والعذبة
التي تحمل رمزية الخير والعطاء والوئام ، كانت لنا هذه الوقفة مع ديوان " شامة بيضاء " الذي يحمل بين دفتيه عشرات النصوص الجميلة والمتنوعة التي تحتاج الى مزيد من القرأة والتأمل والدراسة ، أما ديوانها الثاني " ماذا لو اطعمتك قلبي " وهو الآخر يحمل في طياته عدد من القصائد والنصوص التي تعكس المواقف الانسانية والاجتماعية والفكرية والسياسية التي تحتاج الى وقفة خاصة مع هذا الديوان .
إنتهى
الاسير الفلسطيني كميل ابو حنيش
سجن ريمون الصهيوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق